أطلس النسيج أم خيوط الدانتيل؟


المقالات في جريدة الشرق:

 أطلس النسيج أم خيوط الدانتيل؟

قد يختلف توضيح المقاصد لدى الأشخاص، فبعضهم يتحدث بالتفاصيل، والبعض الآخر يتجه للمختصر المفيد من الكلام، وهنا وجب علينا فهم تلك الشخصيات في حال أردنا التعامل معها، والمهم هنا أن نفهم أنفسنا أولاً، لكي نعرفها للآخرين، يسمَّى ذلك بالهوية الشخصية للأفراد.
ما ينطبق على الأفراد ينطبق على الأمم، فبعد انفتاح العالم، فهمت الدول الرائدة ثقافيا احتياجاتها، وقدرات أفرادها، تضافرت جهود القيادة مع الشعب ليحقق ذلك انسجاماً، وقبل ذلك كله أن تكون لها هوية ثقافية واضحة، وكلما زاد تمسُّكهما بتلك الهوية، كلما كان المجتمع راسخاً في معتقداته، واضحاً في خطواته.
لطالما اعتبر العالم الإسلامي حصانة للفرد، الذي يعتبر نفسه جزءًا من منظومة كبيرة، أساسها المعتقد الديني المشترك، والإيمان بالخالق، وبالنبي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام؛ وعليه فإن اتحاد المسلمين حول العالم يشكل نسيجاً عالمياً مشتركاً بينهم، ويشكل مورداً ثقافياً لأجيالهم القادمة، حيث تعد الحضارة الإسلامية مصدرا لكل المقومات المشتركة بين مجتمعات العالم الإسلامي، وأصبحت النسيج الحقيقي المتفاعل من غرب المحيط الأطلسي، حتى آسيا الشرقية، لها طابعها الواضح في شتى المجالات الثقافية كالعمارة، والفنون، والأدب.
كما قد تألق الخط العربي المندفق عبر العصور من قمم راسخة لأصول اللغة العربية، التي أصبحت شامخة بجمال حروفها، التي لا تشابه في سرد مفاهيمها أي لغة أخرى، فلكل جملة قاعدة، تستند على علم النحو الدال على رونق اللغة، وأصلها النابع من سلامة القرآن الكريم الأبدية.
على الرغم من أن الدول التابعة للعالم الإسلامي كثيرة، إلا أن تعبيرها عن هويتها يختلف من دولة لأخرى، تعتمد في معيار اختلافها، وتحديد مستوى تأصل الهوية بين أفرادها في مواءمة المجتمع نفسه على المسؤولية في نقل الماضي، والقدرة على مواكبة التغيرات الثقافية في الحاضر، ومدى تمكنها من وضع خطط إستراتيجية لمستقبلها الثقافي.
ينطبق معيار عملية رصد الحركة الدائمة للمتغيرات الثقافية على سائر المجتمعات الحديثة، التي تتراكم المعارف بها عبر الزمن لتشكل إرثاً حضارياً، ويأتي دور الأجيال اللاحقة في إنتاج معرفة جديدة تربطها من جديد بذلك الموروث الثقافي، ومع الوقت وأمام ظهور العولمة الثقافية، وتطور أنظمة الاتصالات، وجب العثور على طرق تتكفل بالحفاظ على الموروث الثقافي لتلك المجتمعات، لتحفظ بذلك ما تم رصده يدويا، وأرشفته إلكترونيا من تراثها المادي وغير المادي.
على الرغم من مزايا العولمة الثقافية، إلا أنها قد أدت فعلياً، شئنا أم أبينا إلى تهميش العديد من الأفكار التي طالما حافظت على الموروث الثقافي، وغيرت لفظ العديد من اللهجات، وألغت الكثير من قاموس الكلمات، بالتالي طمست بعض الأنماط الثقافية التي تمثل تراث الأجداد.
هؤلاء الأبناء المغمورون بطفرة الانبهار بعالم آخر، مغاير للحضارة الإسلامية في تعبيره عن تراثه، وهويته، بدأ منذ مطلع القرن العشرين، له مناهجه وتحركاته التي اقتلعت جذور مدن تراثية، لتحولها إلى مدن حديثة الطراز مواكبة لعصر التكنولوجيا، الأمر الذي استدعى تدخل العديد من المجتمعات الإسلامية، وجعلها تعيد النظر في إستراتيجياتها الثقافية، وإضافة العديد من البرامج، والفعاليات التي من شأنها أن توجه أبناءها إلى الموروث الثقافي، واعتبرته إرثاً حضارياً، افتخرت به، ووثقت إنجازاته على جدران أروقتها الثقافية، ومناهج مؤسساتها التعليمية.
خيوط الدانتيل تعني باللغة العربية النسيج، وهو تداخل مجموعتين من الخيوط، يعتبر أطلس، وهو نوع من أنواع النسيج المستخدمة، للحصول على الأقمشة ذات السطح اللامع إبداعاً في حد ذاته، ويتم فصل الخيوط عن بعضها بأبعاد معينة، يكون النسيج في مجمله صورة جميلة تمثل منظرًا خلاباً إضافة لصلابة المحتوى، وذلك للإتقان والدقة اللتين تأسس عليهما العمل في حياكة النسيج.
يمثل عالمنا الإسلامي نسيجاً في حد ذاته، حيث قام المسلمون بحياكة خيوطه مؤسسين حضارة إسلامية سميكة المحتوى، قوية الخيوط، لامعة في رونقها، متألقة على مر الأزمنة والعصور، وقد شكلت إرثاً قد ساهم البعض في الحفاظ عليه، باعتباره أمانة للأجيال القادمة، يهتم النسيج بكل خيط من خيوطه، فلا يعتبر النسيج نسيجا إذا حل به ارتخاء بأحد خيوطه، إذ يؤدي تدافع الارتخاء إلى انفكاك بقية الخيوط، وتهاون وضياع معالم الزخرفة به، ناهيك عن خيبة الأمل في نفس صاحبها الذي قام بحياكتها.
بيد أنه حين يظل متماسكاً خلاباً فهو يمثل الأطلس الخالد بين الأنسجة الأخرى، قد تختلف الأنسجة الأخرى عنه في اللون، وأنواع الخيوط، إلا أن نسيج الحضارة الإسلامية يعتبر تماما كما هو النسيج الأطلس الفاخر السرمدي، قد تم غرزه على أيادٍ علت، ببيارق من ضياء أنار العصور، وبأنامل قد تعالت بأجمل الخطوط.



ملاحظة: الموقع قيد التحديث

 

إرسال تعليق

0 تعليقات